خيول عماد الطائي

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
14/06/2009 06:00 AM
GMT



ليس مصادفةً أن يكون المعرض الشخصي الأول للفنان عماد الطائي عن الخيول ، فالطائي سبق أن نفذ عدد من الأعمال عنها ، مترصداً كل مكامن الجمال في قوامها ورشاقتها وقوتها .. وفي هدوئها وصخبها ، لذلك لم تكن لحظة زمنية شاردة مسك بها الطائي في هذا المكان أو ذاك ، وهذا العنصر شكل لدى الطائي المحور الرئيسي الذي تدور حوله بقية العناصر ، هو عاشَّ منذُ عشرات السنين في وجدان الأنسان بشكل عام ، والأنسان العربي بشكل خاص ، فحين يتناول الفنان هذا العنصر في عدة أعمال تشكل معرضه ُ الشخصي الأول .. هو يدرك من حيث يدري أو لايدري أن هذا العنصر له ُ خزين تراثي وأسطوري في وجدان الأنسان ، والأدراك من حيث لايدري .. أعني به ِ أن مجسات حواسه ِ قد تبلور لها هذه القصدية من حيث لم يشعر الفنان خلال فترة زمنية طويلة ، أي لم تكن قصدية تناول الفنان لهذا العنصر قد أتتْ أرتجالاً ، أو لحظة مصادفة .

 ولم يكن هو الأول الذي تناول مفردة الخيل ولن يكون الأخير .. كبقية المواضيع والعناصر التي يتداولها العديد من الفنانيين والشعراء والأدباء على مدى العصور ، ولكن قيمة هذا العنصر أو ذلك الموضوع هي ترتبط بمستوى الرؤية التي يمتلكها الفنان .
وهذه الرؤية هي التي تجعل هذا العنصر يأخذ قيم ودلالات تؤثر في وجدان المتلقي ، تختلف حينما يتناولها فنان آخر ، لأن بالضرورة الرؤية الفنية تختلف من فنان لآخر ، تبعاً لمرجعيات هذه الرؤية عن تلك ، فهذ العنصر شكل حالة تواجد في وجدان الطائي تفاعل معهُ وتفاعل فيه حتى أطلقها في لحظة تعبيرية تكشف عن أنفعال وتوتر ذهني يعيشهُ الفنان هي أنعكاس وصدى للواقع الصاخب .
المختلف في أعمال الطائي في هذا المعرض أنه ُ أبتعد عن سلطة التأثير للمشهد الواقعي الذي عُرف به ، وحين أقول أنه أبتعد عن الواقعية في أعماله الجديدة ، فأن ذلك ليس بالأمر السهل لفنان لديه قوة وجرؤة لونية في صياغة المشهد الواقعي .. وكذلك ليس بالأمر الهين لفنان تأثر وأستمد قوة ضرباته ِ اللونية وصياغة حالة التعبير لفضاء اللوحة من المدرسة الواقعية العراقية ، وهذه النقطة تحسب للطائي ، لأن أي فنان شاب يتأثر بفنان كبير مثل جواد سليم أو فائق حسن أو حافظ الدروبي أو غيرهم من الكبار ، ويمتلك قوة وسطوة لونية وأحساس مرهف لصياغة أعماله ِ الواقعية بحس تعبيري مؤثر في وجدان المتلقي ، ليس من السهل أن ينحى منحى تعبيري خاص به ِ بعيداً عن عالم هولاء الكبار ، مما يجعله ُ يبقى تحت سطوة الأسلوب الواقعي ، وتنفيذ الأعمال الواقعية بمثل هكذا رهافة وأحساس لوني عالي يجعل الفنان أسير للدهشة والأعجاب التي يراها في وجوه وأنطباعات الناس ، لأن تنفيذ هذه الأعمال بمثل هكذا مستوى ، تصنع هالة حول هذه الأعمال وحول الفنان كذلك ، وكثير ما يبقى عدد من الفنانيين أسيري هذه الهالة والتي تبقيهم لسنوات خاضعين لها وتمنعهم من المغامرة والأنتقال الى فصول وأبواب تشكيلية جديدة

فلذلك كل الذين عرفوا عماد الطائي في السابق حين حضروا الى معرضه ِ كانوا يضنون أنهم سيشاهدون أعمال واقعية عن الخيول

أو يشاهدوا المشهد الواقعي للحياة البغدادية أو ريف العراق ، لكن الطائي كسر هذا التوقع لدى الجمهور ، وهنا تكمن جمالية الفن وذكاء الفنان حين يأتي بشيء مخالفاً لتوقع المتلقي .
الذي يطوف في فضاء لوحاته ِ يرى أنه حاول أن يجتهد في لحظة تشكيلية يبتعد فيها عن سطوة الواقع الذي عُرف به ِ ولايبقى متأثراً بلحظة تعبيرية ثابتة ، بل حاول أن يبتعد الى أماكن هي أقرب الى تكوينات جمالية ضمن أفق أنفعالي لا يستقر إلا على سطح اللوحة ، لأنها المساحة البيضاء الوحيدة التي تفسح للطائي أن يعبر عن مكنوناته ِ ويبوح بأحلامه ِ مرة .. وبأحلام الآخرين مرات عدة ، أنهُ يمتلك قلق أنفعالي كبير وهذا القلق لم يأت ِ من تأزم الأدوات أو فقدانها وأنما يأتي من تزاحم مخيلتهُ بالمشاهدات واللقطات الزمكانية منذ سنوات ، وهذه المخيلة أصبحت مشبعة الى حد الأمتلاء ، فلذلك يحاول اللاوعي في داخل الفنان أن يبث هذه المشاهدات واللقطات عن طريق أحاسيسه ِ من خلال ضرباته ِ اللونية وهو يكتب نصه ُ الجمالي ..
وهنا يأتي دور الفنان حين يستطيع أن يوظف هذه الأنفعالات  بطريقة فنية عالية الحرفية ، فيها شيء من التأني وشيء من الجرؤة ، وأعتقد أن عماد الطائي في هذه المرحلة قد نجح في توجيه هذه الأنفعالات من خلال رؤيته الفنية  الى شيء جميل تتعانق فيه تحركات الكتل اللونية مع أنسيابية الخطوط للحد الخارجي لهذا العنصر أو ذاك ، وبتالي نرى الأثر الجمالي للعمل الفني في وجدان المتلقي ، وتمكن الطائي بذكائه ِ في سحب المتلقي الى النقطة التي أراد أن تستوقفه ُ في أعمال هذا المعرض ،  وهي أبراز الجمال الداخلي للخيول ، وكأنه ُ يريد أن يحدث معادل موضوعي بين الجمال الخارجي والداخلي للخيول في ذهن المتلقي .. لذلك كانت طريقة بناء العمل الفني في هذا المعرض ، تختلف عما كان سابقاً ينتهجه ُ الطائي في عملية البناء .. هو لم يبدأ بكتل كبيرة وينتهي بصغيرة ، بل عمد الى بناء مساحات لونية تراكمية أحداها تعلو فوق الأخرى ، هذه الطريقة من البناء مكنة الطائي من خلق حالة من البنوراما لأستيعاب كل توترات العمل الفني أثناء صياغة أفعال عناصره ِ من جهة ، وأخرى تجعله ُ يركز في بناء الجمالي لعناصر العمل الفني ،  لذلك تجد خيوله ُ وكأنها سابحة في فضاء أو في طيف لوني شاسع وكأنها تريد أن تلحق بالسحاب كما نرى ذلك في أحدى لوحاته ِ .. أنها هائمة ومشرئبة الأعناق في كل الأتجاهات وكأنها تبحث عن خلاصها الأبدي ، لذلك هناك توتر تعيشه ُ هذه الخيول ، ولبيان هذا الجو الطاغي على هذه الأعمال ، كان لابد أن يعمد الطائي الى أستخدام أداة تعطي لهذا التوتر درجته ُ المناسبة .. فعمد الى أستخدام السكين ، والسكين أداة ذات حدين .. أما أن تعطي للعمل شيء من السذاجة والبساطة في البناء ، حين يكون الفنان غير متمكن من خلق حالة من التوافق والأنسجام الذهني والفكري وبالتالي تنساب يده ُ في حالة من التوتر والشد العضلي الذي لايعطي للحد الخارجي للعنصر نسبته ُ الصحيحة وبالتالي يؤدي ذلك الى تغيير الفعل السايكولوجي لعناصر العمل الفني ، وللعمل ككل .

 أما أذا كان الفنان في حالة من التوافق والأنسجام الذهني والفكري ويمتلك الخبرة الجيدة في معرفة أسرار هذه الأداة ، فأن ذلك سيخلق لديه حالة من الأنسيابية والرشاقة المفرطة الى حد الهذيان الأبداعي في بناء العمل الفني .

أن الذي يراقب الفعل الحركي للطائي في بناء العمل الفني من خلال هذه الأداة .. يرى وكأن الطائي كان يستطنق الألوان ويجعلها تداعب أحاسيسنا ومخيلتنا ، هو مرَّ تراه ُ ينهي ضرباته ُبقطعْ متعدد في عملية البناء للشكل الخارجي للخيل ، حين تكون هذه الخيول في حالة من التوتر والصخب وكأن الأرض لاتستقر تحت أقدامها ، فيصل التوتر الأبداعي لدى الطائي الى حد أنهُ يجعل هذه الخيول تتشظى الى درجة يصل هذا التوتر في داخل العمل الفني بحيث تختفي بعض أجزاء الخيل ويظهر جزء آخر بشكل بارز، بحيث تبدو الفكرة قسمت الى جزأين أحداها مع الشكل البارز والأخرى مع الشكل المخفي ، وأن كانت الفكرة بارزة من خلال الأختفاء .وهنا تكمن جمالية العمل الفني لدى الفنان ، في حين أن لوحات أخرى ترى الأيقاع اللوني يمتد حتى يتلاشى في داخل أيقاع لوني آخر مضاد له ُ في درجة تردده ُ اللوني ليفسح المجال لأيقاع لوني جديد يراد منهُ أيضاح نص خفي يغور في مكمن مفردات العمل الفني ككل ، ليأتي هذا النص لقرأة العمل بشكل كامل لدى المتلقي وهذا ما أعطى لبعض الأعمال صفة البنوراما .

المرأة في هذا المعرض كانت قليل الظهور وكأنها متخفية خلف جمال هذه الخيول أو بين غبارها الملون .. أنها ترقد مغمضة العينين وهناك صراخ داخلي لكنها لاتستطيع أن تعبر عنهُ ألا من خلال صخب هذه الخيول .. حتى يحس المتلقي أن ذلك الفرس المنطلق من أمام المرأة المستلقية وكأنه ُ جملة أو نص صارخ .وهنا نلاحظ أن عدد القطْع بعد كل ضربة لم يكن كبير بل قليل جداً فهو أحياناً يرسل ضرباتهِ وينهيهّا بأرسال أشبه بالتوقيع المنحني ، وحين تكون هذه الأعمال تتخللها حالة من التوتر والصخب والأنفعال المليئ بالحدث الأدرماتيكي ، وحتى لاتخرج أعماله ِ عن السياق الأنفعالي المطلوب ولاتستقر على حالات جمالية شكلية فقط ، لجئ الطائي الى ترويض الحدة الأنفعالية والأنبهار الجمالي بأستخدامه ِ للألوان الحيادية ، وحتى الألوان الحارة كالأحمر أو الأصفر أو البرتقالي أونظيراتها المضادة لها من الألوان الباردة أستخدمها بدرجاتها اللونية الخافتة ، وذلك ليجعل المتلقي يتمعن في قرأة النص الداخلي للعمل .. أن الطائي في معرضه ِ هذا لم يكن مشغول كثيراً بالموضوع ، بقدر أهتمامه ِ بفكرة بناء العمل الفني كنص يستوعب جميع الأشكال ، فلذلك كانت تصل عندهُ بعض الأعمال الى درجة الأختزال والتكثيف بحيث تصل الى درجة يراه المتلقي وكأنه عمل تجريدي يحمل مضمون نص لوني حين يظهر ملامح شكل هنا ويختفي هناك ..لقد فاجئنا الطائي في هذا المعرض وفاجئ متلقيه ِ .. ولا أعرف هل سيبقى يمتلك روح المفاجئة في أعماله ِ القادمة خصوصاً أن المفاجئة أصبحت سر جمالية أعماله ِ